فن المخطوطات

قمت بزيارة مقر مؤسسة الملك فيصل الخيرية، واحدة من أكثر المباني البارزة في الرياض التي صممها المهندس المعماري الياباني الرائد كينزو تانج. وهو يتألف من مبنيين شاهقين، كل منهما على هيئة موشور ثلاثي متماثلين ومتقابلي الرؤوس، يربط بينهما جسران في الجزء العلوي من المبنيين. الفراغ بين قمتي المبنيين المثلثين يؤطر مسجد المجمع المصمم بطريقة مختلفة عن المساجد التقليدية، حيث استبدل المهندس القبة بشكل أسطواني مجوف يشبه المحبرة، واستبدل المئذنة ببرج طويل يشبه العمود المربع. المبنى والمسجد يشبهان كتابًا مفتوحًا وقلمًا ومحبرة، هذا التصميم الإنشائي يعكس أهداف المركز واهتمامه بحفظ ونشر الثقافة. هذا المبنى الرائع جزء من مجمع يحتوي على مكتبة ومتحف ومكاتب إدارية.

كان هدف الزيارة الاطلاع على مقتنيات المركز وزيارة المتحف والمعرضين القائمين فيه، ومعرفة المزيد عن ما يقدمه مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية من خدمات للباحثين والمؤلفين من أجل الحفاظ على التراث و تعزيز الثقافة.

كما قمت بمقابلة مع الأستاذ عمار سعيد تمالت، رئيس قسم المجموعات الخاصة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الذي شاركني معلومات قيمة عن مخطوطات المركز وعن دور الفن والرسوم في هذه المخطوطات من خلال الرد على أسئلتي.

أخبرنا عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية وعن مجموعة المخطوطات.

تأسس مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية عام 1983م، أي قبل 40 سنة تقريبًا. من أهدافه نشر المعرفة، تمكين البحث العلمي وحفظ التراث الإنساني. وهو مركز متخصص في المخطوطات والمطبوعات والمجلات وكل ما يتصل بالعلم والثقافة. مكتبة المركز فيها حوالي نصف مليون مجلد مطبوع، وحوالي 28 ألف مخطوطة أصلية (المخطوطة: كتاب مكتوب بخط اليد). كما ينتج المركز بحوثًا أصيلة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. ويقيم المركز المعارض المتنوعة لتعريف الجمهور بمحتويات المركز وجهوده في حفظ التراث.

ما الذي يجعل مجموعة مخطوطات المركز مميزة؟

ينفرد المركز بمجموعة من المخطوطات النادرة جدًا في العالم، مثل المخطوطات المكتوبة بيد مؤلفيها الأصليين وهي ما تسمى بالـ (Autograph). ولدى المركز قرابة 200 مخطوطة كلها مكتوبة بأيادي مؤلفيها. عرضنا في معرض "أسفار" تسعًا من أهمها فقط، مثل مخطوطة ابن خلدون؛ هذه المجموعة تصور لنا نماذج راقية مما خطه العلماء الأوائل من إرث حضاري وتراث انساني، وترمز لاستمرار الثقافة وبقاء ونشر العلوم.

ما أقدم المخطوطات في مجموعة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية؟

يمتلك المركز مخطوطات تتميز بأنها قديمة جدًا، وتسمى بالألفية، أي التي تجاوزت الألف سنة أو ما يقاربها. فقد كانت المصاحف القديمة تكتب على الجلد أو تنحت على الأحجار والعظام. وأقدم مخطوطة في مركز الملك فيصل هي صفحة مخطوطة من القرآن الكريم عمرها الآن 1300 سنة تقريبًا، كتبت على جلد الغزال (الرق) بالخط الكوفي القديم. واليوم يقدر عدد ما يمتلكه المركز من صفحات القرآن المخطوطة على الجلد بحدود 25 صفحة.

بدأ العمل الفني في المخطوطات منذ زمن قديم، ولكنها كانت في أول عهدها بسيطة، استخدمت فيها بعض الأشكال الزخرفية البدائية مثل المربعات أو الدوائر في رؤوس الآيات أو مكان انتهاء الآية، وخاصة في بعض المصاحف القديمة الكوفية، هذه الحركات الفنية اعتبرها بعض الخبراء والباحثين بمثابة زخرفة. وفي بعض المخطوطات تكون مجرد خطوط وإطارات، يرسمها الناسخ بقلمه بعد الفراغ من كتابته للنص دون أن يستعمل فيها أي نوع من الألوان أو الظلال، حيث كان بعض الخطاطين يزينون المخطوطات بأنفسهم، إذ لم يكن ثمة تحديد لعمل الناسخ والمصور والمذهب وقتها. 

وفي عصر الدولة المملوكية نهاية (القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي) بدأ دخول الألوان واستخدام الزخرفة في المخطوطات، وقد بدأ بتلوين بعض الفقرات المهمة، مثل العنوان أو اسم الفصل، فيكون باللون الأحمر غالبًا لإبرازه. بلون مخالف للون المتن في المخطوطة والذي كان يكتب باللون الأسود. كانت الزخرفة في المخطوطات مقتصرةً على المصاحف، لتكلفته العالية، بل كانت مقتصرة على تلوين وزخرفة صفحات معينة من المصحف وليس المصحف كاملًا، فعادةً يزينون أول المصحف وآخره، وبعضهم يزيد على ذلك وسط المصحف. 

كانوا يبدعون ويتفننون في زخرفة الصفحتين المتقابلتين في أول المصحف (سورة الفاتحة وبداية سورة البقرة) يرسمون فيها رسومًا متناظرة ومتجانسة. هاتان الصفحتان تسميان في الاصطلاح (السَّرلوحة أو السَّرلوح) وهي تسمية فارسية مركبة بمعنى الورقة الرَّئيسة. بدأ أهل فارس يضيفون للمخطوطات الرسومات (المنمنمات) كما في المثنويات التي تحوي حكايات تاريخية، ومن أشهرها كليلة ودمنة وملحمة الشاهنامة، مما أدى إلى ازدهار فن التزيين. وفي متحف الملك فيصل للفن العربي الإسلامي الموجود في المركز بالإمكان مشاهدة مخطوطة (مجنون ليلى) المزودة بمنمنمات من المدرسة الصفوية في القرن التاسع عشر ميلادي.

ما الفرق بين المخطوطات وبين المنمنمات؟

المخطوطات يقصد بها التراث المكتوب بخط اليد. وقد عُنِي أجدادنا بالمخطوطات عناية كبيرة، لكونها السبيل الوحيد للحفاظ على ما أنتجوه من علوم ومعارف. وكانت في بدايتها تتعلق بتدوين القرآن الكريم وكذلك الأحاديث النبوية، فحولوها إلى تحف فنية ثمينة ومهمة، تتسابق متاحف ومكتبات العالم من أجل اقتنائها وعرضها. كان الخطاطون يتمتعون بمكانة مرموقة، لاشتغالهم بكتابة مخطوطات المصاحف إلى جانب نسخ مخطوطات الأدب والشعر، الإقبال الكبير على اقتناء المخطوطات الإسلامية شجع الخطاطين على تطوير ما تنتجه أيديهم من مخطوطات، فأشركوا معهم فنانين آخرين من مُذَهِّبين ورسامين ومصورين ومجلدين. لتكتمل بهم عناصر صناعة المخطوطة الإسلامية، التي تميزت بدقّة الزخارف المذهَّبة وجاذبية الصور وزهو الألوان.

أما فن المنمنمات (Miniatures) فهو فن تجميل النصوص بوساطة الرسوم الدقيقة المصورة أو التوضيحية، والتي ترتبط مع النص المكتوب وتعبر عنه. وتتميز هذه الصور رغم صغرها بكثرة تفاصيلها ودقتها ووفرة العناصر الفنية أو التشكيلية المكونة لها كالرسوم الآدمية والحيوانية والنباتية وغيرها باستخدام تقنية الألوان المائية والذهب على الورق.

أخبرنا عن بعض الرسومات الأكثر تفصيلًا الموجودة في المخطوطات؟

يعد كتاب كليلة ودمنة واحدًا من أبرز الكتب التراثية في التاريخ الإنساني، فقد استطاع أن يؤثر في خيال الكثير من الكتاب من جميع الثقافات. نسخة مخطوطة «كليلة ودمنة» المعروضة الآن في معرض "أسفار" في المركز تحتوي على مختلف الجماليات الفنية، وهي أقدم نسخة فيها رسومات عربية. إذ إن معظم مخطوطات كليلة ودمنة في العالم فيها رسوم فارسية أو رسوم هندية. وأيضًا تعد من نوادر المخطوطات التاريخية، لأنها تعود إلى سنة 747 هجرية، وتعدّ ثاني أقدم نسخة بها منمنمات في العالم لا تسبقها سوى نسخة مكتبة باريس الوطنية التي تعود إلى سنة 646 هجرية، وعند التدقيق في رسومات هذه المخطوطة المميزة فعلًا ومقارنتها بمخطوطة كليلة ودمنة المعروضة في متحف الملك فيصل نلاحظ الفروق بين الرسم العربي والفارسي، في ملامح الوجوه، الأزياء وحتى في اختيار الألوان، ونلاحظ فيها بعض خصائص رسوم الفن الإِسلامي حيث ابتعدت عن التجسيم، فتكون الصورة مسطحة تعتمد على بعدين بدون البعد الثالث الذي يعطي الأشياء شكلها الحقيقي.

مثل هذه المنمنمات ألقت الضوء على ألوان الحياة الاجتماعية، وذلك من خلال توضيح الأزياء والأثاث والمباني والأدوات والمتعلقات المختلفة والخلفيات الطبيعية. هذا بالإضافة إلى رسوم الأشخاص وملامح وجوههم والتي توضح التنوع العرقي في المجتمع الإسلامي. وتهدف أيضًا إلى التسلية بالنظر إلى الرسوم المعبرة ذات الألوان الزاهية الجميلة، ولتوضيح نصوص الكتب الأدبية والتاريخية على الخصوص بالرسم وعرض المضمون بشكل مرئي، فهذه الكتب والمخطوطات تضم إلى جانب القيمة الأدبية والتاريخية قيمة فنية مضافة.

استغرقت الرسومات وقتًا طويلًا حيث كانت عملية الطباعة أمرًا صعبًا فكانت تحفر على ألواح النحاس. وهو ما يجعل كتاب وصف مصر عملًا استثنائيًّا. طبع سنة 1809م في باريس، قبل أكثر من مئتي سنة، وصدر من الكتاب طبعتان: الطبعة الأولى في عصر نابليون، تسمى الطبعة الإمبراطورية الأولى، والطبعة الثانية بعد وفاة نابليون، وتسمى الطبعة الملكية. بعض الدول لديها الطبعة الملكية لكن الطبعة الإمبراطورية نادرة جدًا، 

ويعرض المركز نسخة الإمبراطورية حاليًا في معرض "أسفار". يحظى زوار المعرض بفرصة الاطلاع على هذا المخطوط وجهود فريق العلماء والفنانين الذين سجلوا مصر بكامل تفاصيلها الثقافية والجغرافية والأنثربولوجية، ووثقوا بالصور سكانها وأسواقها ومساجدها وساحاتها ليبدو الوقوف أمام هذه المجلدات والتَّمعن في صفحاتها عودة إلى حياة مصر في أوائل القرن التاسع عشر، لذلك يعد كنزًا نادرًا للبشرية.

تتميز مخطوطات المركز بأنها منوعة المواضيع، حيث تغطي أكثر من 50 فرعًا من فروع المعرفة والعلم، أغلبها في العلوم الشرعية، ومجموعة كبيرة منها في العلوم التجريبية، حيث يمتلك المركز أكثر من 1500 مخطوطة في العلوم، 65 منها معروض الآن في معرض "تكوين". وهي مجموعة منوعة من كتب الصناعة والابتكار، تعرض ما طوره المسلمون في علم الهندسة وما أضافوا إليه من المخترعات من آلات القياس والرسم وغيرها، 

وأيضًا المخطوطات العلمية مثل: المخطوطات الطبية، والفلكية، والرياضية، والجغرافية، وعلوم النبات، والحيوان، وغيرها. هذه المخطوطات تحمل نوعًا مختلفًا من المنمنمات، فهي وسيلة للإيضاح وشرح النص العلمي بدون أي عناصر فنية؛ مجرد رسوم علمية بحتة تعتمد على الدقة والأمانة العلمية، مثل رسوم الأدوات الطبية والجراحية المعدنية والأدوات المختلفة والخرائط ونحوها من الرسوم.

ومن المخطوطات المهمة في علم الجغرافيا: مخطوطة الرحالة أبي عبد الله الإدريسي، فيها 73 خارطة تقريبًا رسمها أثناء رحلاته حول العالم وهو أول من رسم خارطة للعالم (عام 1154 م). المخطوطة طبعت عام 1730م أي منذ نحو 300 سنة. (معروضة الآن في معرض أسفار). كما يعرض في متحف الملك فيصل مخطوطات في علوم البحار من تأليف أحمد النجدي مزودة برسومات جغرافية وفلكية.

إن المرء لا يسعه إلا أن يظهر إعجابه بالدور العظيم الذي يقوم به مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في إبراز دور الحضارة الإسلامية وما قدمته للبشرية في مختلف الميادين.  والجهود الجبارة في ترميم المخطوطات والحفاظ عليها وتصويرها ليتمكن الباحثون من الاستفادة منها.

ويتيح المعرض الذي يفتح أبوابه للزوار يوميًا من 9:00 صباحاً وحتى 9:00 مساءً، الفرصة للاطلاع على مئات المخطوطات والخرائط واللوحات والصور النادرة التي يعود تاريخها إلى مئات السنين.