الرسوم في أذهاننا: ترد ملايين البيكسلات من الصور إلى قشرتنا البصرية يوميًا، تدخل من البؤبؤ وتتجمع وتتوضح في عقولنا، ومن ثم تعالج النماذج ثلاثية الأبعاد في غرفة التحكم الواقعة في إدراكنا.
شجرة الأكاسيا الخاصة بوالدتنا وكل ورقة من أوراقها، والبلاط غير المنتظم تحتها والذي يتقوس أحيانا ويبدو مربعًا في آن آخر. الهواء الكثيف فوقنا والذي يسافر من الصحراء الفارغة إلى البحار الكبيرة.
السائق وبصيلات الشعر التي تخرج من فروة رأسه وتشكل بحرا حول جزيرة. السيارة المليئة بالأوراق، والأوراق المليئة بالرسائل، والرسائل المليئة بالحبر.
تملأ المعلومات حياتنا، بعضها ينضح بالتاريخ، وبعضها الآخر كسراب، يشكّل بيئة لذكرياتنا. تقوم أذهاننا بعمل سيكتش لهذه الكثافة، لتحولها لإلكترونات قابلة للاستيعاب، وبذلك تعود أعيننا للنظر مرّة أخرى، لتبدأ بسكيتش آخر، ولكن هذه المرّة هو حسّي وليس مادي.
شكل 1+2: مثال على الترابط بين مفهوم عقلي (سكيتش) وجسم مادي (نصب الجندي المجهول لرفعت الجادرجي) 1958-1960.
من خلال تتبع الرسم التمثيلي في الأطروحات اللاتينية، ومن خلال إسلام العصور الوسطى، ووصولًا إلى الذكاء الاصطناعي، سأعرض في هذه المقالة التساؤلات عن الطرق التي يؤثر بها السكيتشنغ على القطع الأثرية والأشياء والمباني التي نصنعها.
تنشأ الثقافة الماديّة، وهي تشمل الأماكن التي نعيش فيها والمفروشات التي نختارها والكتب التي نقرأها من العقل الباطن البشري. ويشكّل الـ(سْكِيتشنغ) استدعاءً بصريًا للصور الموجودة في ميتافيرس العقل.
إنّ الـ(سْكِيتشنغ) مشابه للحمل المحتمل، والذي يتميّز بطبيعته بالغموض والغرابة، ولكن هذا الغموض هو ما يضفي عليه القوة. ويرتبط الـ(سْكِيتشنغ) ارتباطًا وثيقًا بالأداة المستخدمة لإنتاجه إثر ضعف الصلة بين الصور الذهنية والبصرية.
من خلال تتبع تاريخ التمثيل البصري في الفنّ والعمارة، سأطرح أسئلة عن هذا الضعف، وماهية الطرق التي ترتبط بها الأدوات والأفعال الأدائية والنتيجة النهائية في الـ(سْكِيتشنغ).
شكل 1+2: مثال على الترابط بين مفهوم عقلي (سكيتش) وجسم مادي (نصب الجندي المجهول لرفعت الجادرجي) 1958-1960.
لنتمكن من تحليل تاريخ الـ(سْكِيتشنغ)، يجب علينا أن ندرس العلاقة بينه وبين الاستبصار. يربط جهاني بالاسما في كتابه “The Eyes of the Skin”
بين التقدير الذي نملكه للاستبصار والقيمة التي نضعها على المساعي الفكرية، وهو ما أصبح يمثل الفكر الغربي. كما أنّه يشير إلى فترة بدائية في الحضارة الغربية، والتي يربط فيها أرسطو العقل بالاستبصار قائلًا: "إن العقل والاستبصار قريبان من بعضهما بعضًا إثر اللامادية النسبية".
شكل 3+4: صور من الثقافة العامة تعكس دور الاستبصار في السلطة.
ويساعدنا الشرح الإضافي لديفيد مايكل ليفن في فهم كيف يوفر الاستبصار لنا حسًّا بالبيئة حولنا: "يمنحنا الاستبصار إرادة على القوة. فالاستبصار يمتلك رغبة للتحكم والثبات، وللسيطرة والأمان، وبالتالي ينشئ ميتافيزيقا مركزية للوجود، تماشيًا مع ثقافتنا والطابع التكنولوجي للمجتمع حولنا".
شكل 3+4: صور من الثقافة العامة تعكس دور الاستبصار في السلطة.
وبهذا، أصبح الاستبصار والتمثيل من الأدوات الرئيسية التي تستخدمها البشرية للتحكم بالعالم وتفسيره وفهمه. وكان أول كتاب يستخدم السكيتشات الهندسية لشرح الظواهر البصرية كالمنظور البصري والظلال والانكسار هو كتاب "العناصر" لإقليدس، حوالي 300 قبل الميلاد، والذي أثبتت نظريته لمفهوم التلاشي رياضيًّا في كتاب العالم المسلم الكندي "رسالة في إصلاح كتاب إقليدس" (الذي ألف قبل عام 866). وفي كتابه، يقول الكندي: "الفاصل بين خطين متوازيين غير متساو، وما هو أبعد من البؤبؤ يُرى أضيق، وما هو أقرب يُرى أكبر". باختصار؛ يثبت هذا القانون الذي ينص على أن الأشياء تبدو أصغر وأصغر كل ما ابتعدت عن العين، لتتلاشى بعد ذلك في نقطة واحدة (راجع الشكل رقم 5). وأصبح هذا لاحًقً الأساس الذي عمل به برونليسكي، عالم المنظور الخطي.
شكل 5: شكل تخطيطي يمثل إثبات الكندي لنقطة التلاشي من منظور خطي.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ نظرية المنظور الخطي لم تعدّ تفسيرً للبيئة الحسّية في إسلام العصور الوسطى، ولم يتَّضح السبب في هذا على الرغم من مناقشته. يعزو بعضهم ذلك إلى تحريم التمثيل المرئي في المجتمعات الإسلامية، بينما يقول الآخرون أنّ الانقسام بين العلماء والفنانين لم يسمح لأي تبادل بين التمثيل الهندسي والفني.
ولكن بين القرنين الثامن والرابع عشر، طوّر الرسم التمثيلي من "الإسقاطات الأمامية الموازية والمائلة". كان هذا التركيز الرئيسي في العمل العظيم للجزري عام 1206 (شكل 6) وفي الروايات التصويرية مثل "العروش السبعة" في ديوان جاوي (شكل 7).
شكل 6: رسم اسماعيل الجزري للإسقاط الأمامي لميكانيكا المياه. تُظهر الصورة تطور الدقة الفنية والشكل الجمالي للقطعة المعروضة.
شكل 7: منظور جانبي من "العروش السبعة" للجامي (1492). رؤية عرفانية لملائكة تحمل صوان للشاعر السعدي. هذه الصورة تعرض استخدام الأنماط والقياسات لاستعراض الظلال والعمق الموجود في المساحات ثلاثية الأبعاد
كما تجدر الإشارة أنّ اهتمام إسلام العصور الوسطى بالإسقاط الأمامي والمائل هو تمثيل ثنائي الأبعاد إلى حدّ كبير، ولكن هذا لا ينفي اهتمامه بالبعد الثالث. وما يعدّ مثالًا على ذلك هو ما كتبه الكاشي في أطروحته القيمة التعليمية "مفتاح الحساب" عن المقرنصات، وهي عنصر رئيس في الهندسة المعمارية الإسلامية.
يُعزى الاختلاف بين المنظور الخطّي (والذي طُور لاحقًا في عصر النهضة) والإسقاط المائل
(الموضح في رسومات الكاشي للمقرنصات – شكل 8+9) إلى التركيز على التفكيك البياني والرياضي للاستبصار في العصور الوسطى، على عكس إعادة بناء الاستبصار في عصر النهضة.
هذا النوع من السكيتشنغ والذي يحتوي على الإسقاطات المائلة والأمامية أصدر نوعًا من العمارة الإسلامية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنظريات الهندسة والنحت البارز والأنماط والخدع البصرية.
شكل 8+9: رسومات الكاشي الأمامية والجانبية للمقرنصات. تعرض الرسومات العلاقة التحليلية بالفضاء المعماري والتي يمكن استنتاجها من الأنماط ثنائية الأبعاد. هذا النوع من التمثيل مهم جدًا للفهم التقني والرياضي.
شكل 8+9: رسومات الكاشي الأمامية والجانبية للمقرنصات. تعرض الرسومات العلاقة التحليلية بالفضاء المعماري والتي يمكن استنتاجها من الأنماط ثنائية الأبعاد. هذا النوع من التمثيل مهم جدًا للفهم التقني والرياضي.
بدأ أثر الاستبصار في التعبير عن بيئتنا والتحكم بها يؤتي أُكُله عام 1420 عندما قام برونليسكي بفك شفرة العلاقة البسيطة في المنظور الخطي (شكل 10) من الأطروحات اللاتينية وعلماء الرياضيات في إسلام العصور الوسطى.
وبينما قد يبدو هذا الاكتشاف بسيطًا في يومنا هذا، إلا أن هذه الأداة الجديدة المستخدمة في السكيتشنغ قد أثرت بشكل كبير في الطريقة التي عبر بها النحاتون والفنانون عن الصور التي تخطر على أذهانهم. تتبع أستاذ جامعة كولومبيا مارك هيويت العلاقة بين المنظور الخطي كأداة وأثرها على مجتمعنا.
شكل 10: تمثيل تخطيطي لتقنية الرسم التخطيطي لفيليبو برونليسكي لمعمودية سان جيوفاني، 1415.
يصف هيويت استكشاف المنظور الخطي على أنّه اللحظة التي فرقت بين "عمارة المحاكاة" والتي تهتم بالحرفة، و"العمارة اللغوية" والتي تهتم بالأفكار وتركيبها. كما يقول إن دور المعماري في تاريخ العمارة يحاكي دور البناء الماهر، والذي يعتبر مقاولًا في القرن الواحد والعشرين. ومن الناحية التاريخية، عمل البناؤون الماهرون مع مجسمات ثلاثية الأبعاد ورسومات تمثيلية صغيرة.
ولكن منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، ومع تقدم التكنولوجيا، أصبح المقاولون يعتمدون على رسومات ثنائية الأبعاد تمثل الشكل ثلاثي الأبعاد. تعمل هذه الطرق على توسيع الفجوة بين المعماريين والمقاولين، والذي أصبح بدوره يلغي أثر المادية والفراغ والتماهي والحرفية من قواميس المعماريين (شكل 11).
شكل 11: رسم بياني من الفصل الثاني لكتاب فيتروفيوس الثالث في عصر النهضة، تحت عنوان "دائرة عائلة سانغاللو" من 1530-1545. يوضح التمثيل البياني التحوّل من التفكير في العمارة كشكل ثلاثي الأبعاد إلى شكل ثنائي الأبعاد.
لطالما كانت التطورات التكنولوجية التي تطرأ علينا تتجه نحو الاستبصار. فنحن نصنع الواقع الافتراضي وشاشات الكمبيوتر والمواد الاصطناعية غير اللمسية. ونقوم ببناء الأثاث والمنازل والمدن بالإنتاج الصناعي وأذرع الماكينات، ونكرر تصاميمنا عالمياً تماماً كانقسام الخلايا دون أي اعتبار للظروف الاجتماعية والبيئية الفريدة.
أصبحت أجسادنا باردة في المكاتب والمراكز التجارية والمطارات المصنوعة من البلاستيك، وتركت التكنولوجيا أيدينا وأجسامنا فارغة بلا مأوى. يقول بالاسما في هذا الشأن:
شكل 12: ملصق فيلم "ميتروبوليس" من 1927، والذي يعكس أثر الحضارة على الإنتاج الصناعي العالمي.
"تعود لا إنسانية العمارة الحديثة إلى إهمال الجسد والحواس، وعدم التوازن في نظامنا الحسي".
شكل 13: رسم توضيحي لنيويورك الجديدة بواسطة "سوبر ستوديو" في 1969، والذي يرسم التأثير الديستوبي للمساحات المحدودة الرقمية على المساحات المبنية.
دائًما ما تحمل الخواتيم ملاحظة للمستقبل. لا يهدف هذا البحث إلى نقد التكنولوجيا، بل لتذكيرنا أن الاتجاه الذي يسلكه التطور التكنولوجي ليس حياديًّا. إنّ القيمة الموضوعة على الرؤية كأعلى الحواس دفعت التطور التكنولوجي على تفضيل البصريات عوضًا عن حواسنا، وقد أدى ذلك إلى بيئة بلاستيكية هُمشت فيها المادية والشعور بالوقت من خلال الحرف.
ومع هذا، فإن هناك "عودة" تحدث الآن، حيث يقود تعطيل مختبرات التصنيع إلى تقوية حلقة الوصل بين الحرفة والمادية وأيدينا وشاشات الحواسيب.
لأننا نتخيل بشكل جماعي مستقبلًا يدمج بين الواقع المعزز والتجارب الافتراضية والعالم الحقيقي، فإنني أحثُّ الفنانين على السؤال عن أدوار أجسادهم وأجساد من يتلقى إبداعاتهم.