نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

سْكِتش يحي نفسه
A-
A+
من الميدان

سْكِتش يحي نفسه

سْكِتش يحي نفسه

"منطق الشجر"، بواسطة مهنّد شونو، عام 2022 تركيب منحوت، مع سعف نخيل وصبغ وهيكل هوائي ومعدني، الأبعاد الكلية متغيرة. صورة «صامويل تشيروبيني»، بإذن من الفنان ولجنة الفنون البصرية، المملكةالعربية السعودية..

بقلم حفصة الخضيري
July 25th, 2022

"يجسّد عملي، روح التعبير الإبداعيّ التي يتعذّر كبحها، قوة الخيال التي تزداد كلّما حاولت تقييدها، فتجعلها أكثر صلابة. تلك الصلابة التي تعلّمها الطبيعة في دوراتها المستمرة من الموت وإعادة النموّ والحياة، كالأشجار التي تقتات من رماد حرائق الغابات".

- مهند شونو -

في اللحظة التي انفتحت فيها أبواب بينالي البندقية وكشفت عن أوراق النخيل المصبوغة بالأسود، لعمل مهند شونو "منطق الشجر"، عرفتُ فورًا أنّها لن تكون قطعةً فنّية عادية، بل تجسيدًا عملاقًا أحيته جهود الذين عملوا على تنفيذه دون كلل.

 لقد غمرت الابتسامات والحماسة وجوه مَن كان لهم دورٌ في ذلك العمل، وفاضت على كلَ شيء. وكما نُقل عن شونو في الإعلان: "يشرفني أن أمثّل المملكة العربية السعودية في بينالي البندقية. ليس بذاتي فحسب، بل حاملًا معي روح الإبداع السعودية التي ترفض القيود. كما يشرفني أن أعمل مع فريق الجناح الوطني بأكمله".

تجلّت هذه الروح الطليقة بحضور ودعم عدد من الشخصيات الهامة مثل: سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن فرحان آل سعود، وزارة الثقافة وهيئة الفنون البصرية والجناح السعودي، معرض أثر، حي جاكس Jax، بينالي البندقية، فاكتوم آرت Factum Arte، مجموعة كرافت Craft، وغيرهم. ومن المؤكد أن هذا العمل إنما هو من صنع الروح الطليقة فنّانيه والمشتغلين عليه، وهم: ريم فدا، روتانا شاكر، تمارا كالو، آرتور ويبر، ناصر الملهم، عبادة الجيفري، أيمن زيداني، وسارة إبراهيم. كل من حضر حفل التنصيب والافتتاح شعر بروح العمل الجماعي والحماسة والفرحة التي تدل على نجاح الفنان في عمله وانتاجه الإبداعي. 

رسم مبدئيّ رقمي لتصوّر "منطق الشجر" لـمهند شونو، بإذن من الفنان.

وليس من الغريب أن يمتلك مهند شونو مجتمعًا رائعًا كهذا. فقد قال أثناء حفل التنصيب: "بدأ عملٌ كهذا بدفتر وصفحة فارغة وحبرٍ أسود. بعدها استمتعت بالحديث مع رفاقي ومشاكستهم مرارًا وتكرارًا في أثناء احتسائنا القهوة. فكلما كبر حجم العمل والتحدي الذي ينطوي عليه، ستدرك أكثر أنّك بحاجة لإشراك هذا المجتمع. لقد ترعرتُ وأنا أرى الكثيرين يغادرون السعوديّة وخاصة المبدعين الذين أرادوا السفر والتعبير عن ذواتهم. عندما قررتُ العودة للسعودية وافتتاح ستوديو، أبهجني أن أرى الكثير من المبدعين يعودون، ولا أريدهم أن يرحلوا. لذا، أحاول قدر استطاعتي أن أحيل هذا الاستوديو إلى مساحةٍ يمكنهم البقاء بها واتّخاذها بيتًا وموطنًا لها".

 أسّس شونو مساحةً لمجتمعه من الفنانين ليشهدوا لحظةً وتجربة استثنائية كتلك؛ تقدّيرًا لجهود كل فردٍ منهم. استخدم شونو أيضًا كلمة "نحن" باستمرار في حديثه عن العمل مظهرًا أهمية دور هذا المجتمع بالنسبة إليه ولنجاح هذا العمل.

إلا أن التجربة لا تعني شيئًا دون ذلك الوحش في الجناح الوطني السعودي. تجربة المشي من بداية الجناح الى نهايته بغرض رؤية العمل للمرة الأولى في حد ذاتها تجربة مهيبة تحبس الأنفاس. حيث يبدأ العمل بخطٍ رفيع دقيق، خطُ الابتكار، يكبر ذلك الخطّ ويتنامى بتدفق الأفكار والطاقة الإبداعيّة فيه حتى يبعث للحياة، ثم يبدأ في التنفّس وخوض الحياة خارج قيود الجناح. 

رسم مبدئيّ رقمي لتصوّر "منطق الشجر" لـمهند شونو، بإذن من الفنان.

نجح شونو في صنع وإخراج مخلوقٍ إلى واقعنا كتعبير عن الإبداع وقوة الخيال، هذه القوة التي يقول عنها: "تنمو على الرغم من محاولاتك لتقييدها، فتجعلها أكثر صلابة. تلك الصلابة التي تعلّمها الطبيعة في دوراتها المستمرة من الموت والحياة، كالأشجار التي تقتات من رماد حرائق الغابات".

تمكّن خياله أن يبعث الحياة في مسوّدة ويجعلها تتنفّس في هيكلٍ يمتدّ على طول 40 مترًا صُنع من أوراق النخيل المطلية بالأسود والمحرّكة بواسطة ضغط الهواء. وكما علّق أحد المارّة، فإن هناك شعورًا إما بالواقعية السحرية أو الرعب. 

وهو ما يلائم فكرة العمل العامة، كونه يبحث قوّة الخط المرسوم وقدرته على الخلق والتدمير. ذلك الخط الأوّل، في أيّ مجالٍ كان - فن أو كتابة أو موسيقا - هو الأهم على الإطلاق؛ لأنّه هو من يولّد الأفكار والخيالات والمخرجات الإبداعية.

الخط هو رمزُ القوة والهيمنة المهمة؛ إذ تندرج الفكرة بأكملها ضمن استكشاف شونو للذات والتقاليد والأساطير والطبيعة.

رسم مبدئيّ رقمي لتصوّر "منطق الشجر" لـمهند شونو، بإذن من الفنان.

وعلاوةً على ذلك، فإن كثافة الأوراق والامتداد من خطٍ واحد إلى مخلوقٍ عملاق هو مجال آخر للاستكشاف بالنسبة لشونو وهو قصة "الخضر"، الذي كان يخضّر المكان حوله أينما جلس، وهذا ما يمثّل إعادة الحياة والتشافي والبعث. وعمل "منطق الشجر" هو انعكاسٌ جليّ لهذه النمو الهائل الذي يمثّل تأثير "الخضر". على الرغم من ذلك، فانّ هذا العمل لا يعكس الأساطير الموجودة فحسب، بل يخلق أساطير جديدة للتعبير بشكل أفضل عن الأفكار والمخاوف المعاصرة. يمنح منظر "طفو ذيل" العمل على الأطراف الأكبر من أوراق الشجر شعورًا بإمكانية النموّ والحاجة للهروب من حدود الجناح. 

والمواد المستخدمة نفسها مثيرة للاهتمام، يقول شونو: "مادة النخيل شائكة للجناح الوطني للمملكة العربية السعودية لأنها مادة متوقّعة، ولكن التحدي هو أخذ تلك المادة والعنصر التقليدي الذي يتوقّعه الجميع ثم تفكيكه وإعادة تشكيله في شيء يُولد حرفيًا من رحم الخيال، ما لا يشير فقط لثقة الفريق بالعمل والعملية، بل أيضًا لقدرتنا على التحرّر من الصور النمطية عن ذواتنا وما يتوقّعه الآخرون منّا". يوسّع استخدام المادة بطريقة غير تقليدية ومبتكرة في إعادة تصوّر العالم وتعزّيز الرابط مع شخصيّة "الخضر" والمنطقة التي نبعنا منها. تعزيزًا للأساطير، فالهيكل لا يعكس فقط النمو والامتداد المطلق لمادة النبات، بل يعكس كائنًا حيًّا فعليًّا يتنفس ولا تعيقه القيود. حيث توضّح أن محاولة تقييد الخيال الإبداعي للإنسان لا طائل منها. وكلما حاولنا حرق غابات الخيال، إلا أنها تخلق أرضًا خصبةً للتعبير والنمو.

رسم مبدئيّ رقمي لتصوّر "منطق الشجر" لـمهند شونو، بإذن من الفنان.

وتعزيزًا للأفكار من أسطورة "الخضر"، فقد وظف شونو القيود لتكون أرضًا خصبةً لخياله ولا يسمح للواقع أن يحجز ويقيّد أعماله. يكشف فهم الفكرة وآلية عرضها للمشاهد عمق البحث والخيال الخصب الزاخر. ويكشف أيضًا قوة خيال الإنسان والقدرة على الابداع والتطوير خارج قيود المتوقّع وغير المتوقّع. يعد العمل شاهدًا على قدرة المرء على صنع سرده خارج الخط التنقيحي والسرد الاستشراقي حول الفنون والوضع الثقافي في المنطقة.

لم يكن الحديث حول الفن سهلًا دائمًا، ولم تكن القصص التي تُحكى دائمًا تمثل المنطقة بشكل عادل. بالنسبة لشونو، فإن صنع هذا العمل لا يتمحور فقط حول سرد حقيقته، لكن طُلب منه صناعة شيء من "الشيء الذي يوجد في كل أعمالك، الشيء الذي تولع به، وأنا أعتقد أن الخط هو ذلك الشيء. وأنا مسرور بنجاحنا في بعثه للحياة في الجناح السعودي". وتؤكّد (مقيم الفن) فدا على ذات الرسالة، تقول: "يشير عمل منطق الشجر إلى هذا الخط المرسوم المتنامي ويضم أبعادًا كثيرة. يصبح هذا الهيكل رمزيًا وثنائيًا في التخيّلات المعروضة والكلمات المكتوبة والعلامات المنحوتة، تعكس جميعها آثارها الدائمة على التاريخ".

"منطق الشجر"، بواسطة مهنّد شونو، عام 2022 تركيب منحوت، مع سعف نخيل وصبغ وهيكل هوائي ومعدني، الأبعاد الكلية متغيرة. صورة «صامويل تشيروبيني»، بإذن من الفنان ولجنة الفنون البصرية.
"منطق الشجر"، بواسطة مهنّد شونو، عام 2022 تركيب منحوت، مع سعف نخيل وصبغ وهيكل هوائي ومعدني، الأبعاد الكلية متغيرة. صورة «صامويل تشيروبيني»، بإذن من الفنان ولجنة الفنون البصرية.

يتجلّى هذا الولع بالخط عند مراجعة أعمال شونو المختلفة بدءًا من رسومه وصولًا إلى الجناح السعودي في بينالي البندقية. ويبرز بشكل خاص عند النظر إلى مسوّداته وتطوّر عملية التفكير الأوليّة في هذا العمل. يظهر الخط فعليًا وملموسًا في الخط المرسوم أولاً والنمط المتكرر في لوحاته وأعماله الورقية. كما يظهر مجازًا في الخط الفاصل بين الواقع والخيال، وبين الحياة والموت، وبين الأساطير والحقائق. تارةً يطمسها وتارةً يبرزها، خالقًا لحظات سحرية في واقعنا. وعلى الرغم من أن الخط يظهر في أعماله، إلا أن اللون الأسود هو الذي يمنح تناسقًا بصريًا للعمل. 

وهو نابعٌ من علاقته بالحبر الأسود فهو على استعداد لحذف وتنقيح الصورة والنص. وبالنسبة إلى شونو، فقد أبرز الأسود أهمية ما تم حجبه ومواراته. واستخدام الحبر الأسود هو شكل من أشكال تحويل اللون إلى أداة تقدّم تفاسيرًا غير محدودة، وبالنسبة إلى الفنان: "عندما يكون الشيء خفيًا، فإنه يحفّز ويسرّع الخيال لأنه الآن عليك تخيّل ما يخفى عنك". يعتبر الحبر الأسود مصدر إلهامٍ رئيسي لـشونو لأنه أضحى جزءًا من محاولة معرفة واستقصاء ما يمكن الشعور به وما يمكن حدوثه ووجوده.

"منطق الشجر"، بواسطة مهنّد شونو، عام 2022 تركيب منحوت، مع سعف نخيل وصبغ وهيكل هوائي ومعدني، الأبعاد الكلية متغيرة. صورة «صامويل تشيروبيني»، بإذن من الفنان ولجنة الفنون البصرية.

وتعتبر أعمال شونو حقل تجارب للخيال ولتفاعل المواد والتقنيات والمهارات البشرية المختلفة، لأن البشر لهم كينونات واحتياجات مستقلّة. يعبر شونو عن التجربة: "بينما أعمل، يستمر العمل الفنّي يصرح عن نفسه. ولوقت طويل كنت أنفّذ عملي بشغفٍ وولعٍ شديد دون فهمٍ حقيقي لماذا كنت أفعل ما أفعله، سوى ثقتي بعملية الاستكشاف. وأنا لا أحبّ أن أعمل عندما أكون على معرفة بالمنتج النهائي لأنه بهذا تصبح العملية الإبداعية مقيدة، ويتم اختزالها في مجرد تنفيذ وإنهاء لعمل لا إبداع فيه". على سبيل المثال، كانت لدى شونو غاية وراء مشروع "منطق الشجر" ولكن في النهاية، "أرادت هي أن تكون شيئًا وكان ينبغي أن ننصت لما تريد أن تكونه ونسمح لها أن تتجلى بالطريقة التي تريد".

إطلاق الحرية للعمل للتعبير عن نفسه تثبت أن أعماله ليست هياكل أو جمادات، إنما مخلوقات ذات قوة وتأثير تشارك احتياجاتها ورغباتها مع العقل الإبداعي الذي يدعم تجلّيها. لذلك، فإن تسمية "منطق الشجر" بالوحش ليس خطأً بسبب إساءة فهمه؛ فهو في الحقيقة يحمي ولا يدمر. بينما في الحقيقة نحن هم الوحوش لمحاولاتنا تقييد وتدمير خيالاتنا والكينونات في عقولنا. يقول شونو: "إننا بحاجة للوحوش لحماية العقل الإبداعي، وإن العالم الخيالي يحتاج لوحوش لحمايته".

لهذا، فإن مشروع “منطق الشجر" هو واحد من أولئك الحماة، ويتعيّن علينا احترام دوره الذي وُكِّل إليه، والشعور الذي يبعثه في مشاهديه.

"منطق الشجر"، بواسطة مهنّد شونو، عام 2022 تركيب منحوت، مع سعف نخيل وصبغ وهيكل هوائي ومعدني، الأبعاد الكلية متغيرة. صورة «صامويل تشيروبيني»، بإذن من الفنان ولجنة الفنون البصرية، المملكة العربية السعودية.

يمكن زيارة "منطق الشجر" لمهند شونو في ارسنال، وهي جزء من معرض الفن الدولي التاسع والخمسين في بينالي البندقية، بعنوان The Milk of Dreams، بين 23 أبريل الى 22 نوفمبر 2022.  

*حفصة الخضيري، كاتبتنا الثقافية ومراسلتنا من البندقية، إيطاليا.

إعادة تعيين الألوان