الرّسم بالبيانات، حين تتقاطع التّكنولوجيا مع الفَنِّ والعلمِ والطَّبيعَة
هلوسة الآلة، أحلام المرجان، استنادًا إلى ملايين الصور للشعاب المرجانية تحت الماء، 2021. بإذن من الفنان.
"يعاني العالم من مشكلات كثيرة، وأنا هنا لأجلب الفرح والإلهام والأمل في عملي..." الفنّان رفيق أناضول.
رفيق أناضول، تصوير إفسون إركيليتش
الفريدة والمتحولة والحيوية ليست سوى بعض النعوت التي يمكننا من خلالها وصف العمل الإبداعي الرائع لرفيق أناضول.
إنّه فنان الإعلام الجديد المشهور عالميًا، والمخرج الرائد في جماليات الذكاء الاصطناعي، يستخدم البيانات في إنشاء أعمال فنية وتشكيلية تأخذ هيئات افتراضية ومادية متنوعة.
من خلال فنّه الغامر، تظهر المباني بأكملها في الحياة، وتغيب الأرضيات والجدران والسقوف نحو اللانهاية. أنشأ العديد من المشاريع باستخدام البيانات الأولية، التي يعالجها ويحولها إلى مشاهد تجعل الخفي مرئيًا للجمهور تقدم منظورًا جديدًا للعالم الذي يحيط بهم.
ذاكرة الكوانتم، 2020، معروضة في إن دي في ترينيال، ملبورن، أستراليا، تصوير توم روس. بإذن من الفنّان.
من خلال اقتراح إمكانية "العمارة ما بعد الرقمية"، يحب أناضول دعوة جمهوره لتخيل حقائق بديلة من خلال إعادة تعريف وظائف عناصر العمارة الداخلية والخارجية.
يتضمن أحد الأعمال الملحمية لـستوديو رفيق أناضول التقاطع بين تجارب التفوق الكمومي للذكاء الاصطناعي من غوغل، والتعلم الآلي، وجماليات الاحتمالات.
تستخدم الذاكرة الكمومية في جوجل بيانات وخوارزميات أبحاث الحوسبة الكمية المتاحة للجمهور، لاستكشاف إمكانية وجود عالم موازٍ من خلال معالجة ما يقرب من 200 مليون صورة للطبيعة والمناظر الطبيعية بوساطة الذكاء الاصطناعي، والنتيجة هي سلسلة مثيرة للدهشة وغامرة من الأعمال الفنية التي تصور واقعًا بديلًا للطبيعة.
في هذه المقابلة مع إثرائيات، يشاركنا أناضول قصته وكيف بدأ رحلته. يخبرنا أيضًا عن العملية الفريدة لإنجازه الفنّي، وكيف يستخدم الفن لخلق مساحة لجمهوره من أجل تجربة واستكشاف الحياة والطبيعة من منظور جديد.
س 1. نعرض قطعًا فنية تمنح الفنّان إحساسًا خاصًا بالعلاج والشفاء و "التجدّد". هل تفضل قطعة أو أكثر تشعر أنها تلهمك وتمنحك السعادة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا؟
واحدة من أكثر اللحظات إلهامًا التي حدثت لي كانت في برلين، أحد مشاريعنا يسمى (أحلام الطبيعة) في معرض شونيج في ديسمبر الماضي. في هذا المشروع، أنشأنا منحوتة بيانات الذكاء الاصطناعي في كنيسة أجنيس في برلين، حيث تمّ تحويل الفضاء إلى حلم ذكاء اصطناعي باستخدام 200 مليون صورة للطبيعة.
استخدمت كل صورة يمكنك تخيّلها من المتنزهات الوطنية والأحراش والغابات المطيرة، والمساحات المائية والمحيطات والبحيرات، والزهور والأشجار وجميع أنواع الجمال الطبيعي، وضعت في الذكاء الاصطناعي لدينا، ثم صنعنا هذه القطعة، وأعتقد أن هذه التحفة خلقت هذا النوع من الإحساس الفريد العلاجي لجمهورنا.
حظيت هذه التجربة بزيارة 200000 شخص خلال شهرين. كان أكبر جمهور على الإطلاق يحضر معرضًا في أوروبا. لذلك أعتقد أن استخدام الذكاء الاصطناعي في مكان آمن ومضمون، واستخدامه بشكل أخلاقي، يخلق مشهدًا مريحًا مع تأمل التكنولوجيا. كانت تلك واحدة من المرات الأولى التي رأيت فيها أشخاصًا يشاركون لحظاتهم الجميلة والمتعة والتشويق مع تجاربهم في الحياة، بعد تجربة أعمالنا الفنّية.
هذيان الآلة، أحلام الطبيعة، معرض شونيج، برلين، ألمانيا، ديسمبر 2021. صور رومان ميرز. بإذن من الفنان.
هذيان الآلة، أحلام الطبيعة، معرض شونيج، برلين، ألمانيا، ديسمبر 2021. بإذن من الفنان.
س 2. قل لنا ماذا يعني "الفنّ" لك؟
الفنّ هو قدرة الإنسانية على التخيّل، وأعتقد أن دور الفنّان هو تحفيز الخيال، لإيجاد معنى للحياة وخلق الإحساس بالخيال.
هذا بالإضافة إلى تحفيز أذهاننا لاستقطار الجمال والجماليات والأسئلة والمعاني في الحياة.
هذيان الآلة، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية، نوفمبر 2019. بإذن من الفنان.
س 3. لنعد إلى أول قطعة فنية لك، وماذا كانت ومتى؟
كان أول أعمالي الفنّية مهنيَا عندما كنت أتعلم كيفية برمجة جهاز كمبيوتر. سأقول إنه كان عام 2008 عندما قمت أيضًا بصياغة مصطلح (رسم البيانات). كانت المرة الأولى التي أستخدم فيها لغة برمجية مفتوحة المصدر تسمى Pure Data وأظهر لنا أستاذنا كيفية توصيل جهاز استشعار بالبرنامج الذي يجعل الخفي مرئيًا. منذ ذلك الحين، ألهمتني فكرة أن أي بيانات من حولنا يمكن أن تصبح عملًا فنيًّا. البيانات ليست مجرد مجموعة من الأرقام؛ يمكن أن تصبح البيانات شكلاً من أشكال الذاكرة. يمكن أن تتشكل هذه الذاكرة بأي شكل ولون ومعنى. منذ ذلك الحين، أتخيل عندما نحول البيانات إلى صبغة، أو إلى مادة، لن تجف، ولن تنتهي، ولن تتوقف مؤقتًا أو تتجمد؛ وستكون قابلة للتطوير، وفي حالة حركة، وفي تغير مستمر مثل الحياة.
س 4. توشحت إثرائيات على غلافها بقطعة من الذكاء الاصطناعي، وأثارت جدلًا واسعًا، برأيك لماذا الكثير من الناس يخشون الذكاء الاصطناعي، وما الذي تعلمته من خلال استكشافك الإبداعي للذكاء الاصطناعي؟
أولاً، كبشر؛ ردة فعلنا قوية إزاء الأشياء التي قد تسوء. إنّه شبيه بمحاولتنا التوازن خشية السقوط أو تلقي ضربة على رؤوسنا، إنّه الحذر تجاه الحياة.
ثانيًا، أظن أننا نوجه أدوات الاستشعار لدينا نحو الذكاء الاصطناعي، وهو يحيط بنا في كل مكان؛ ما نأكله وما نشاهده وما نشتريه وما نقرأه وما نسمعه، يتم رصده إلى حد كبير بواسطة الذكاء الاصطناعي، ومن المتوقع تمامًا أن هذا سيخلق مشكلة حول الخصوصية والإرادة الحرّة في النهاية.
إذن، هذا موقف إشكالي جدًا مع الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك يبدو أنه من السهل جدًا رؤية الجانب السلبي للأشياء في الحياة، لكن علينا أن نتجشم المبادرة إلى الفعل، ونرى كيف يمكننا أن نكون أكثر إبداعًا.
كيف يمكننا تحويل ذكرياتنا إلى أحلام؟ كيف يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي لتوسيع العقل البشري واستخدامه للأشياء المفيدة التي تحتاجها البشرية وفي حل المشكلات المعقدة في العلم؟ للذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة لم تكن ممكنة من قبل للبشرية، ومن منظور إبداعي، تبدو لي واحدة من أكثر طرق التخيّل إلهامًا. قد لا أتمكن من رسم نموذج مناسب على الورق بقلم، لكنني أعرف كيفية أرسمه في مخيلتي وبرمجتي وإنشاء رسومات حاسوبية للأشياء التي في ذهني. لذلك بالنسبة للأشخاص مثلي، الذين يعملون بالفنّ الرّقمي والتقنيات الرّقمية، يعد الذكاء الاصطناعي أحد أكثر أشكال الإبداع إلهامًا.
ذاكرة الكوانتم. تمت معالجة 200 مليون صورة ومناظر طبيعية من خلال الذكاء الاصطناعي، 2020. بإذن من الفّنان
هذيان الآلة، أحلام المرجان، استنادًا إلى ملايين الصور للشعاب المرجانية تحت الماء، شاطئ فاينا، ميامي. 2021.
س 5. الطبيعة إحدى موضوعاتك المتكررة. هل يمكنك إخبارنا المزيد عن سبب استمرار الطبيعة في إلهامك ودور الطبيعة في رفاهيتنا؟
أعتقد أن الطبيعة هي المساحة الأساسية والأكثر أهمية حيث نحتاج جميعًا إلى الاهتمام بها، وتوخي الحذر معها واحترامها. هي المكان الذي نأتي منه ونذهب إليه وتشكل الجانب الأساسي في حياتنا، وخاصة في ظروف الوباء، للأسف كان علينا أن نلتزم منازلنا، وأن نعرض عن الذهاب إلى الطبيعة، لكن هل يمكن للطبيعة أن تأتي إلينا؟ أدركت محدودية تقنياتنا وأدواتنا في جلب الطبيعة إلينا. وأهمية البقاء على التواصل معها وتأملها، وكيف يمكننا أن نبقى منغمسين في البيئة التي نحن منها. إنها الحياة التي نستمر فيها كل يوم، والمصدر الأهم للفن والإبداع، ومن أجل رفاهيتنا ومتعتنا يجب احترام الطبيعة وتقدير غناها وتذكرها في كل حين.
س 6. ما محور مشروعك الفنّي في السعودية؟ والإلهام وراء ذلك؟
تم التكليف بالمشروع خلال معرض نور الرياض، وهو معرض رائع برعاية منسقين رائعين لتحفيز الخيال والأمل والجمال باستخدام الضوء كمواد. بصفتي فنّانًا عمل على الضوء كمادة لمدة 14 عامًا، أنشأت مشروعًا يدعى (آلية الرياض للحلم)، استخدمنا في المشروع أكثر من 9 ملايين صورة من تلسكوب ISS (تلسكوب هابل)، الذي كان يرصد المجرّات والنّجوم ومذكرات الكون -أقولها نوعًا ما بشاعرية- والمشروع يعتمد على مجموعة البيانات هذه. حيث استخدمنا خوارزميات التعلم الآلي، وأنشأنا ثلاث خوارزميات مختلفة للذكاء الاصطناعي، وتركنا الآلة تحلم. في كل مرحلة مر الذكاء الاصطناعي بمجموعة من البيانات الأولية وخلق نمطًا ذا مغزى، منحوتة ثلاثية الأبعاد، لدينا عالم ثلاثي الأبعاد عندما تخطو بداخله تشعر أنك أصبحت داخله، ثلاثة جدران مدعومة بوسائط الإنارة (LED) مع مرايا لخلق تأثير ممتد ولا نهائي.
تم ذلك من خلال خوارزميات متطورة، وتحديدًا حيوية السوائل، واختزال الفوارق الهزيلة، والعديد من الخوارزميات المعقدة والحسابات التوليدية لخلق شعور بالإلهام، والتجربة المفعمة بالأمل والبهجة لأحلام الآلة. يرتكز المشروع على صور من الرياض والمنطقة كنقطة انطلاق، ثم ينتقل إلى الكون.
هذيان الآلة، أحلام الطبيعة، رفيق أناضول، في مركز بومبيدو ميتز. بإذن من الفنان
س 7. أخبرنا بشيء عنك لا يعرفه معظم الناس، ربما حيوان أليف تربيه، أو عادة تلتزمها، أو مكان للإلهام تذهب إليه دائمًا وما إلى ذلك.
الطبيعة ملهمتي، مؤخرًا كنت في رحلة رائعة إلى الغابات المطيرة في منطقة الأمازون في البرازيل. تمكنت من رؤية جزء كبير منها. أنا وزوجتي نبحث باستمرار عن مساحات وثقافات جديدة ونحاول القيام برحلات جديدة على الأرض والاحتفال بالحياة.
ويلهمني أيضًا العلماء المجتهدون الذين حفّزوا حدود الخيال وعلماء الأعصاب وعلماء الحساب الكمي وغيرهم الكثير.
الأمر الآخر هو أنني أحب القهوة، والقهوة في الرياض رائعة. أنا عمومًا أحب القهوة التركية والإسبريسو وجميع أنواع القهوة، لكني أحب القهوة بشكل خاص في الرياض.
س 8. ما شعارك الذي تعيش به؟
هدفي هو تكريس حياتي للإبداع الفنّي لأي شخص من أي عمر وخلفية. أنا أستخدم خوارزميات التعلم الآلي لتطوير الأحلام من الذاكرة الجمعية للبشرية وآمل أن أخلق وعيًا جماعيًا بالإنسانية. على أمل أن يكون عملنا مفيدًا لرفاهية الناس. يعاني العالم من مشكلات كثيرة، وأنا هنا لأجلب الفرح والإلهام والأمل في عملي.
أحلام الكازار، مشهد سينمائي تم استخدامه بواسطة 150 فيلمًا تاريخيًا تركيًا، في تركيا، في 24 نوفمبر 2021. بإذن من الفنان.
س 9. أخبرنا المزيد عن خطواتك التالية ومشروعك المستقبلي القادم؟
أنا متحمس جدًا لافتتاح معرضنا القادم في متحف الفنّ الحديث (MoMA) في نيويورك، في 19 نوفمبر من هذا العام. إنه حلم أي فنّان أن يعمل مع مثل هذه المؤسسة المهمة، وأنا ممتن للغاية لهذه الرحلة وهذه الخطوة التالية. نحن نعمل أيضًا على مشروع Metaverse الخاص بنا، (Dataland) الذي سيفتتح في لوس أنجلوس العام المقبل. سيكون هذا هو المثال الأول لاستخدام الخبرات متعددة الحواس في كل من عالم metaverse والعالم المادي. وآمل أن أحضر المشروع إلى المنطقة وأن يحضره للجميع.
س 10. ما هي النصيحة التي تقدمها للفنّانين الجدد، وأي دروس مستفادة يمكنك مشاركتها معنا؟
بداية؛ توصيف النجاح مهم جدًا. فالنجاح هو تحويل الحلم إلى حقيقة. المسافة من الحلم إلى الواقع هي بالضبط الرحلة التي يجب أن نبحث عنها. ومن ثم العمل الجاد طبعًا، لا أعتقد أن هناك أي طرق مختصرة أو حلول فورية للمواقف الصعبة. بالعمل بجدٍّ ندرك أن الكفاءة وطرح الأسئلة وحتى الإخفاق ليست مشكلات. بل إن الإخفاق درس مهم إذا كان بوسعنا طرح أسئلة جوهرية وعدم تكرار المشكلات نفسها. أخيرًا، نحن جميعًا على أكتاف العديد من العمالقة قبلنا. لا توجد طريقة تجعلنا وحدنا، من يتخيل ما قد يكون عليه المستقبل! لهذا السبب أنصح جيل الشباب وأي فنّان قادم أن يتذكر عمالقتنا وأبطالنا ومعلمينا وأن نعطي الفضل والاحترام دائمًا للأبطال الذين ألهمونا.
مع هذا الدافع والشغف، نتوقع أن نرى الكثير من الحواجز الجديدة التي تم تجاوزها، ومسارات فنية يعيد أناضول تعريفها في الأشهر والسنوات المقبلة. في الأعمال الفنية التي يبتكرها، فنحن على يقين من أنها ستكون رحلة كاملة للذات والشعور الجمعي للإنسانية والعالم من حوله.
هذيان الآلة، مدينة نيويورك.
معرض شونيج.
ذاكرة سربينتين، غرفة غامرة تقع في ساحة بيزا دومو الشهيرة، ميلانو، إيطاليا، أكتوبر 2021.
ذاكرة الآلة: الفضاء، المعرض الفردي الأكثر شمولًا حتى الآن في اسطنبول، مارس 2021، معرض بيليفنيلي، اسطنبول، تركيا.