نحن نعد شيئًا رائعًا من أجلك.

فَنُّ الرَّحلاتِ الذَّاتيّة
A-
A+
ضيف العدد

فَنُّ الرَّحلاتِ الذَّاتيّة

فَنُّ الرَّحلاتِ الذَّاتيّة

"بلا عنوان" للدكتورة هياء عبدالرحمن الحسين. ديسمبر 2003. أكريليك ووسائط متعددة، على خشب. 32 "× 48" بإذن من الفنّانة.

بقلم د. هياء عبدالرحمن الحسين
December 20th, 2022

أُجريت دراسات كثيرة حول مزايا العلاج بالفن والتعافي به، سواء كان ذلك بممارسته، أو متابعته والاهتمام به، فقد أثبتت الدراسات فائدة أن تكون محاطًا بالفنّ لأنه يستطيع أن يمدّك بالقوة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأشخاص الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، أو المشكلات النفسية.

بالتأكيد هذا لا يغني عن وجود طرق أخرى للعلاج إلى جانب الفنّ، ولكنّه يعد قيمة إضافية للأساليب الأخرى في العلاج، ففي بعض الأحيان يكون هو المكوّن الأساسي المفقود في عملية التعافي.

ّمن جهة أخرى، كانت توجد حكايات مختلفة، أو تصورات رومانسية عن طبيعة الفنان المجنون وأسلوب حياته الغريب؛ فالفنّان كشخص وحيد في أثناء ممارسته يعيش في صراع دائم من أجل تشكيل هذا الفن.

لكن كما ذكر سابقًا، الفنّ يبدو لنا كتصور معين أو صورة رومانسية، تشكلت في فكرنا من خلال الروايات وأفلام هوليود. وبالنسبة لي كفنّانة، أجد نفسي كواحدة من أكثر الأشخاص "العاديين" الذين يمكن أن تصادفهم. وأنا مدينة بذلك لمكون واحد مهم في حياتي: إنه الفنّ!

"الطريق" بقلم د. هياء عبدالرحمن الحسين. آذار/مارس 2013. أكريليك على قماش. 40 «x30». بإذن من الفنان.

أعلم أن هذا التصريح قد يكون غريبًا عند بعضهم، وذلك مقارنة بالصورة النمطية للفنّان التي اعتدنا عليها، ولكن اسمحي لي، أن أخبرك بقصتي وربما يمكننا العثور على إجابة لفكرة التعافي من خلال الفنّ.

نشأت كابنة لرجل دبلوماسي، تنقّلت حول العالم معظم حياتي. وعندما كنت مراهقة، انتقلنا إلى بلد تركَ أثرًا ثقافيًا عميقًا صادمًا في نفسي، وتزامن مع إصابة أخي الصغير بالتوحد. في ذلك الحين، كنت من النّوع الاجتماعي المقبل على العالم الخارجي، ولكن عندما هيمنت تلك المواقف المستجدة في الحياة التي أشرت إليها سابقًا، على فكري وعائلتي، تقوقعت حول نفسي.

لطالما أحببت الموسيقا، كانت ملاذي للهروب. إلا أنه في عيد ميلادي الرابع عشر، قام والدي بشراء مسند للألواح وبعض الألوان. ونظرًا للتغير الذي حصل لي في غضون الشهور الأخيرة، جعلتني هذه الأشياء أتذكر كم كنت دائمًا أحب الرسم والألوان، لذا شرعت في الرسم مرة أخرى.

في البداية كنت أرسم بعشوائية، وأستمتع فقط بممارسة دور الفنّان المضطهد الذي لم يفهم عمله. رسمت أشكالًا ولم أتمكن من مزج الألوان بشكلها الصحيح. وعلى نحو بطيء، بدأت أعتبر الوقت الذي أرسم فيه نوعًا من أنواع الطقوس، فصار روتينًا يوميًا، أزاوله طبعًا بعد الانتهاء من واجباتي. بعدها تعلّمت كيف أضبط الحالة المزاجية، من خلال وضع موسيقا مناسبة، وإضاءة جيدة، وببطء تعلمت بعض تقنيات الرسم وخلط الألوان.

شيء ما تغير بداخلي، أصبحت الصراعات العاطفية التي أمرُّ بها أقلّ تعقيدًا، بوسعي التحكم بها والتعامل معها. لم تعد حياتي اليومية ذلك الجحيم الذي كان عليّ تحمله، وسرعان ما عدت إلى الاقتراب من طبيعتي المتمثلة في أن أكون نزقة وسعيدة. تمكّن الرسم من معافاتي ونسيان تلك الفترات الصعبة من حياتي، وساعدني لأن أكون أقوى.

انتهى بي الأمر بالتخصص في كلية الفنون الجميلة. وخلال ذلك الوقت، جربت التصوير والنّحت وغيرها من التخصصات الفنّية.

"هؤلاء العارفين"د. هياء عبدالرحمن الحسين. يوليو 2002. أكريليك على خشب. 32 بوصة × 48 بوصة. بإذن من الفنّانة

ومع مرور السنين، وإقامة العديد من المعارض الفنية لاحقًا، لاحظت جانبًا مهمًا في عملي الفني، وربما يحدث مع الفنّانين الآخرين أيضًا؛ لاحظت أنه عندما أمر بمرحلة صعبة، يميل الفن الذي أنتجه إلى أن يكون مظلمًا وقاتمًا، ولكن بمجرد أن أنتهي من الجلسة أو اللوحة، أشعر بالراحة وصفاء الذهن مما يسمح لي بالتغلب على أي مشكلة أواجهها.

ومع ذلك، حين أكون في حالة جيدة، يصبح فنّي أكثر حيادية وموضوعية إذا رغبت في ذلك. حيث يصير انعكاسًا للحياة من حولي، وليس مجرد وسيلة لإطلاق العواطف المظلمة بداخلي.

تابعت الدراسات العليا، وتخصصت في الإنتاج السينمائي، وفي الختام حصلت على درجة الدكتوراه في تخصص نظرية الأفلام. وفي صناعة الأفلام وجدت أن ممارسة الفنّ مع مجموعة في حد ذاتها تجربة إيجابية عامة ومحبطة في بعض الأحيان. إذ يمكن مزج الصورة المرئية والمسموعة واللون مع الموسيقا. كما يمكن لنا الحديث عما نشعر به أو رسمه أيضًا.

في صناعة الأفلام، ستجد العديد من الأشخاص يشاركونك أفكارك وتجاربك. ولكن إذا كنت تفضل مشاهدتها بدلاً من ذلك، فهناك العديد من الأفلام التي تلامس قلب الشخص وعقله، ويمكن اعتبارها شكلًا من أشكال التعافي.

إن كنت سأقدم اقتراحًا لفيلم يدور حول قوة الفنّ من خلال تجربة فنّان، فسأوصي بشدة بفيلم "باسكيات" للرسام الذي تحول إلى صانع أفلام اسمه جوليان شنابل، الفيلم الذي يتتبع رحلة الفنّان داخل الاستوديوهات والمعارض في مدينة نيويورك، حتى الموت في أواخر الثمانينيات.

إذا كان علينا أن نسأل كيف يمكن للفنّ أن يشفي المرء، فسأقول إنّها الطقوس، والعادة، والخلو إلى الذات لفترة من الوقت، التفكير، والتأمل، ومعالجة أي أفكار قد تخطر في باله. وهناك سبب آخر، هو أنك عندما تمر بهذه العادة والطقوس، فإنها تصبح متكررة، وهناك راحة في الحركة المتكررة بشكل عام؛ حيث يسمح للعقل بالتنظيم وإعادة التقييم وتوضيح أي ارتباك يمر به. كما أن الجانب المادي لتشكيل فنّ ما، أمر مرضي للغاية ومجزٍ. إنه فنّ ملموس، يتلاعب بحواسك ويرضيها في معظم الأوقات.

"الملائكة"د. هياء عبدالرحمن الحسين. مايو 2004. أكريليك على قماش. 59 بوصة × 53 بوصة. بإذن من الفنّانة.

وللفنّ أيضًا أشكال عديدة ومنوعة. فالطبخ يعد شكلًا من أشكال الفنّ، بقدر ما هو الرسم، والكتابة، والتصوير، وصناعة الأفلام، وغيرها. لذا، إن كنت تمر بحالة ما، ولا يمكنك العثور على الوقت للرسم أو الإبداع، قم بطهي وجبة بنفسك، أو شاهد فيلمًا، أو اذهب إلى معرض وألقي نظرة على الفنّ.

هناك العديد من صالات العرض الرائعة التي تفتح أبوابها في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، لذا استفد من ذلك! بصفتي فنّانة، سأعترف بأنني أمر بحالات عندما لا أبتكر الكثير من الفنّ، لكن عندما أمضي في ذلك، أتأكد من رؤية ما يفعله الآخرون، في جميع أشكال الفنّون والتخصصات. إنها تلهمني وتعطيني الدافع للعودة إلى فنّي. وآمل أن تتمكنوا أنتم كذلك من القيام بنفس الشيء.

"ظلال" د. هياء عبدالرحمن الحسين. فبراير 2015. أكريليك على قماش. 48 بوصة × 56 بوصة. بإذن من الفنّانة.
إعادة تعيين الألوان